الرئيسية

/

نقاشات علمية

اسلام صلاح

نقاشات علمية

6 يناير, 2025

كانت استقلالية قدرة الإنسان الحر عن قدرة الله، في المخيال الفقهي، تعني بالضرورة خروج الإنسان من تحت وصاية رجال الدين؛ وعليه استندت الجبرية اللاهوتية إلى القدرة الإلهية المطلقة، لإنكار وجود حرية الإرادة الإنسانية بشكل ينفي، في بعض الأحيان، إرادة الإنسان بشكل كلي، بداعي أنّ المشيئة الإلهية لا بد أن تتحقق بالضرورة، ذلك أنّ كل ما يفعله الإنسان محتوم. وهو ما يتماهى مع توصيف حسن حنفي: “الإنسان هنا مُتلقٍّ ومُتلقٍّ فقط، وفق مبدأ عبودية الإرادة”.

وبالتالي، كان من الطبيعي أن تنظر المنظومة الفقهية لمؤسسة الرق، ذلك أنّ بنيتها لم تكن لتنتصر أبداً للحرية الإنسانية، حيث مارست دعوتها كل أشكال التأويل؛ لنفي القدرة الإنسانية على الفعل، وأرجعت الأمر كله للإله الواحد “ٱلۡقَاهِرُ فَوۡقَ عِبَادِهِۦۚ”.

كان أبو حنيفة ممّن قالوا بالجبر، حيث أحال على رواية لابن مسعود تقول: “تكون النطفة في الرحم أربعين يوماً، ثم تكون علقة أربعين يوماً، ثم تكون مضغة أربعين يوماً، ثم ينشأ خلقه… فيقول يا رب(!)، ذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ ما رزقه؟”. وهو ما قرره الطحاوي، فيما نقله عن أبي حنيفة وأتباعه، قائلاً: “والسعيد من سعد بقضاء الله تعالى، والشقي من شقي بقضائه”. وأكد ابن تيمية ذلك قائلاً:” إنّ أبا حنيفة من المقرين بالقدر، باتفاق أهل المعرفة به وبمذهبه، وكلامه في الرد على القدرية معروف في الفقه الأكبر، الذي بسط فيه الحجج في الرد عليهم بما لم يفعله غيره”.

وبالاشتباك مع جملة المقولات التي تبدو متضاربة عند أبي حنيفة، يمكن القول إنّه يقول بالإرادة المجازية للإنسان، وهو قول يتفق فيه مع الأشاعرة، والدليل على ذلك قوله: “إنّ الاستطاعة التي يعمل بها العبد المعصية، هي بعينها تصلح لأن يعمل بها الطاعة، وهو معاقب في صرف الاستـطاعــة التي أحــدثـها الله فيـه، وأمـــره أن يستـعمـلها في الطـاعـة دون المعصية”. لكنّه سرعان ما يرتد إلى القول بالجبر المطلق، فحين سُئل: “هل يسع أحد من المخلوقين، أن يجري في ملك الله ما لم يقض. فقال لا، إلّا أنّ القضاء على وجهين منه أمر، والآخر قدرة. فأمّا القدرة فإنّه لا يقضى عليهم ويقدر لهم الكفر ولم يأمر به. بل نهى عنه. والأمر أمران أمر الكينونة، إذا أمر شيئاً كان، وهو على غير أمر الوحي”.

ثم يذهب أبو حنيفة في نهاية الأمر إلى إغلاق باب التفكير في المسألة برمتها، حيث يقول: “أما علمتم أنّ الناظر في القدر كالناظر في شعاع الشمس، كلما ازداد نظراً ازداد حيرة”. وحين سأله أحدهم: “كيف يقضي الله الأمور كلها، ويجري على مقتضى قدره وقضائه، ويحاسب الناس على ما يجيء على أيديهم من عمل؟”؛ قال: “هذه مسألة استصعبت على الناس فأنى يطيقونها(!)، هذه مسألة مقفلة، قد ضل مفتاحها، فإن وجد مفتاحها علم ما فيها، ولم يفتح إلّا بمخبر من الله يأتي بما عنده ويأتي ببينة وبرهان”.

من جهته، استدعى الإمام مالك مصطلح “علم الله الأزلي” الناتج عن إرادة الله ومشيئته؛ التي تؤطر كل شيء، لينفي حرية الإنسان وقدرته على خلق أفعاله. وبدوره يقول الشافعي إنّ “مشيئة العباد هي إلى الله تعالى، ولا يشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين، فإنّ الناس لم يخلقوا أعمالهم، وهي من خلق الله تعالى”.

ويُعد الإمام أحمد بن حنبل نموذجاً لنزوع أهل الحديث تجاه الجبر، وكان يؤمن بالقدر خيره وشره، وأنّ ما يفعله الإنسان بقدرة الله وإرادته، فلا يقع في ملكه إلّا ما يريد، ولا يصدر عن العبد شيء لم يهيئه الله له؛ لذلك كان يحمل بقسوة على القدرية، ولا يقر الصلاة معهم.

ويقر الإمام أحمد بالجبرية المطلقة، التي تجلّت بوضوح في كتابه “عقيدة أهل السنة”، الذي أملاه على القاضي أبي الحسين محمد بن أبي يعلى؛ “فالقدر خيره وشره، وقليله وكثيره، وظاهره وباطنه، من اللّه، قضاء قضاه، وقدر قدّره، وكل الناس صائرون إلى ما خلقه الله لهم، فالزنى والسرقة وشرب الخمر، وقتل النفس وأكل المال الحرام، والشرك باللّه والمعاصي كلّها بقضاء وقدر، من غير أن يكون لأحد من الخلق على اللّه حجّة، بل للّه الحجّة البالغة على خلقه. فالله علم الطاعة من أهل الطاعة وخلقهم لها. وكلّ يعمل لما خلق له، وصائر لما قضى عليه وعلم منه، واللّه الفاعل لما يريد، الفعّال لما يشاء”.

ويؤكد ابن حنبل بإصرار على أنّ الإنسان مجبر على الشر، قائلاً: “من زعم أنّ الزنى ليس بقدر، قيل له: أرأيت هذه المرأة، حملت من الزنى وجاءت بولد، هل شاء اللّه عزّ وجلّ أن يخلق هذا الولد؟ وهل مضى في سابق علمه؟ فإن قال: لا. فقد زعم أنّ مع اللّه خالقاً وهذا هو الشرك صراحاً. ومن زعم أنّ السرقة وشرب الخمر وأكل المال الحرام، ليس بقضاء وقدر، فقد زعم أنّ هذا الإنسان قادر على أن يأكل رزق غيره، وهذا صراح قول المجوسية”.

ارسل بواسطة